السبت، 27 نوفمبر 2010

جميلة فعلا..فن الاختلاف

طاولة واحدة كانت تجمعنا في ليالي يناير الباردة، أربعة أصدقاء يتشابهون في حبهم لتناول القهوة قليلة السكر، والجدال، ويختلفون في كل ما عدا ذلك !! .نلتقي على فترات متباعدة، كلما شعرنا بحاجة إلى أن نصب زيت الصداقة والأخوة على تروس الحياة المادية القاسية .فنقتطع من جسد الأيام ساعات معدودة، نتقوى بها على شدة ما نلاقي من الدهر، ونفتح فيها أبواب القلب بلا تحفظ أو مواربة .


في تلك الليلة كان شريف واجما بعض الشيء، وكالعادة ألح عليه طارق أن يفرغ ما في صدره، فالصديق وقت الضيق كما يقول المثل، وإن لم يتحدث لنا عن همة فلمن يتحدث، وهكذا أقنعه طارق أن يتكلم، ويحكي مشكلته .

نقل بصره بيننا وهو يقول : لم يتبق على زفافي إلا أياماً معدودات كما تعلمون، لكني أشعر بأني ربما أكون قد أخطأت الاختيار، كل يوم أرى اختلافات كثيرة بيني وبين الفتاة التي اخترتها ، هي صالحة وعاقلة وبها مميزات كثيرة، وهذا ما يجذبني إليها، لكننا نختلف في أشياء عدة، وكلما حاولنا أن نتنازل قليلا لنقترب من بعضنا البعض، ما يلبث أن يطل سوء الفهم برأسه مرة أخرى فنختلف ونتخاصم ..! .

خيم صمت علينا، قبل أن يقول محمد محاولا كسر الشجن الذي سببته لهجة طارق الحزينة : وتريد الصمت يا صديقي، هذه أمور سهلة ولحسن الطالع أن بين ظهرانينا من يفتي في هذه المسائل، فافتنا يا كاتبنا عن معضلة أخانا .. ثم قهقة ضاحكا وهو يشير إلي .

ابتسمت قليلا وأنا أقول لطارق : أهلا بك في قطار الزواج يا عزيزي، ها أنت وقبل أن تضع قدميك فيه بدأت في مكابدة مصاعبه، وصدقني يا صاحبي إنها ألذ مصاعب وضغوط الحياة .

ثم رشفت رشفة من قهوتي وأنا أنقل بصري بين الجميع وأقول : نحن مثل أطراف المغناطيس تماما يا أصدقائي !، ننجذب إلى الطرف الذي يختلف عنا، ونتوحد معه، وهذا أمر يبدأ منذ اللحظة الأولى .تتجلى عظمة ربنا وحكمته في لحظة بدء التكوين، فنرى السائل المنوي المتحرك، يندفع إلى البويضة الساكنة الهادئة، والتي تجتذب بثباتها أقوى حيوان منوي من ملايين الحيونات المندفعة.فتبدأ ومنذ اللحظة الأولى وضع قواعد اللعبة، فهناك طرف ثابت وهناك آخر متحرك، هناك كثر متدافعون وهناك واحدة مترقبة في دلال ! ويتبقى سر انجذابهما هو الاختلاف الأبدي والفطري بينهما. يكبر الرجل والمرأة، وتبدأ معالم الاختلاف تظهر وبشدة بينهما، ويبدأ كذلك الاختلاف بيننا في طبيعة التعامل مع هذا الاختلاف .فمنا من يرفض رفضا تاما فكرة أن يلتقي شخصان يختلفان في أشياء عدة، ونجده يحاول بشتى الطرق أن يغير من طباع وتصرفات وميول شريك حياته، وقد يفشل في ذلك وتضطرب الحياة، وقد ينجح ويصبح الطرف الآخر فاقدا لهويته، تابعا للطرف الأول .

ومنا من يقبل بالاختلاف كأمر واقع لكنه يفشل في التعامل معه، ونجده مضطرب في حياته، ويحاول تجنب الحديث في كثير من الأمور مخافة تفجير خلاف أسري .وهناك من يتفهم الاختلاف وينجح في التعامل معه، ويستخدمه في إثراء الحب وتغذيته .

إنه لأمر مضجر وممل أن نعيش مع شخص يشبهنا تماما!، يرى ما نرى، ويرفض ما نرفض، ويرفع إصبعه موافقا عند كل مناقشة، فهذا مما يعطي لحياتنا لونا باهتا سلبيا، قد نحبه لفترة لكننا سنمله بعد حين .

تنحنح طارق مبديا بعض الاعتراض وهو يقول : لكني عشت أسمع وأؤمن أن الاتفاق ينجب علاقة متوازنة هادئة إيجابية، وكنت أشير بحماسة وثقة إلى كل زوجين سعيدين مؤكدا على أن تفاهمهما وانسجامهما هو منبع سعادتهما الزوجية، ولم أتصور للحظة أن الاختلاف والتضاد يمكن أن ينجب علاقة سليمة!؟ .

أومأت برأسي موافقا وأنا أقول : دعني أولا أنبهك إلى أن هناك ثمة فارق دقيق ومهم بين الخلاف والاختلاف، الخلاف هو تعبير عن عدم استطاعتنا إدارة ما بيننا من وجهات نظر ورؤى مختلفة، فنصل إلى نقطة من عدم الاتفاق تنشئ توترا وشقاقا يؤثر في حياتنا، بينما الاختلاف هو أمر فرضته علينا طبيعتنا، ومن شأن من يديرهما بذكاء أن ينعم براحة وهدوء ودفء كبير، إن من نراهم حقا سعداء يختلفون مع بعضهم البعض، لكنهم يمتلكون براعة في إدارة هذا الخلاف ووضعه في مساحة لا يتخطاها، ولا تظنن أن السعادة تنتجها معادلة ( أنا أرى .. أنت توافقني على طول الخط)، وإنما معادلة ( أحبك .. حتى وإن اختلفت معك) .
لكننا نرى في كثير من الأحيان أن الاختلاف يضعف الحب بل وينهيه تماما .. قالها طارق معترضا، فقلت محاولا التوضيح أكثر : دعني أتعرض للشريحة التي تقصدها، والتي يسيء كل منهما لحبيبه عندما يختلفان .إننا وعندما لا نحترم الاختلاف بيننا وبين شركاء حياتنا، ونراه تحديا وتعديا علينا نبدأ في فقد مساحات من الحب الذي يجمعنا .بعدها نبدا في محاولة لإنقاذ الحب إلى سلك أحد طريقين :الأول : أن نخرس أي صوت يدعونا لقول ما نراه، ونكبت بداخلنا مشاعرنا ـ وهذا ما تلجأ إليه عادة النساء ـ كي نُرضي الطرف الآخر، ونريه كيف أننا نحبه ونوافق على ما يقول . والثاني : توجيه حرب شرسة ضد الطرف الآخر، في محاولة لتغييره، كي يصبح كما نحب ونريد .وهذان الشكلان، أبدا لا يحلان القضية ..

نعم سيوجد نوع من التفاهم والتراضي، وسنجد أنفسنا سعداء أول الأمر، ظانين أننا وصلنا إلى وثيقة تفاهم مشتركة، وفي الحقيقة أن هذا يرضي إلى حد كبير العقلية العربية، التي يرفض رجالها إقتسام وجهات النظر مع النساء، ويرضى نساؤها بلعب دور الجانب الأضعف المغلوب على أمره ! إن الناظر في أحوالنا يرى أن كثيرا من البيوت اختارت أن تمرر الأيام، وتتفق على وضعية من الهدوء والتراضي بينهما، ترضى بأن يطغى جانب الهدوء والسلم على جانب الحب المشتعل الدائم القائم على الإدارة الصحيحة لفن الاختلاف. فإذا سألتني، ما الذي يوجد شقاقا ونزاعا في كثير من البيوت التي ترتفع فيها الأصوات ونرى المشاكل فيها لا تهدأ، فأخبرك أنها مقاومة الاختلاف!.تلك المقاومة التي تنشئ أحد زوجين :

ـ إما رجل شديد، عصبي، يقاوم زوجته محاولا فرض سيطرته عليها .

ـ أو رجل حساس، هادئ ، لا يحب الاصطدام .

ويقابل هذان الصنفان صنفان من النساء :

ـ فإما إمرأة ضحية، مغلوب على أمرها، لا تملك من شأنها شيء .

ـ وإما إمرأة متمردة، قوية، ترتفع عندها ميول ذكورية، وحب للسيطرة .

هذان الصنفان من الرجال، والنساء، هما أبطال كثير من البيوت مِن حولنا، تلك البيوت التي صدمها سوء التعامل مع الاختلاف الفطري بينهما .



قاطعني أحمد معترضا على كل ما أقوله ـ كعادته ـ قائلا : حنانيك يا كاتبنا الكبير، لقد عاش آبائنا وأجدادنا تحت سماء الحب سنين طوال، بفطرتهم قبضوا على مشكلات الأيام فلم يتركوا لها مجالا لتعكير حياتهم، لم يحضروا وقتها دورات لتنمية الحب، أو يقرأوا كتبا عن السعادة الزوجية، فما بالك اليوم تُعقد الأمر، ليت الزمان يعود ويعود معه دفء بيوتنا، والحب البسيط الجميل، الذي نولد به ولا نتعلمه .



فأجبته : كلامك منطقي يا صديقي، لولا أنك أغفلت حقائق في غاية الأهمية، أولها أن زماننا تغير، وتغيرت معه مفاهيم كثيرة،طغت المادة على الروح، فلم تترك لمشاعرنا متنفسا لتعلن عن نفسها، وتغيرت المرأة كثيرا، فلم تعد تلك الفتاة التي تنتظر في بيتها إلى أن يأتي (ابن الحلال) ليحملها معه إلى بيته، راضية بالقليل الذي يعطيه لها، قائمة على خدمته، حامدة ربها على ابتسامة الرضا التي قد يعطيها لها بين حين وآخر.لقد أصبح المرء منا أكثر وعيا باحتياجاته العاطفية، مستعدا لطلبها، معلنا التمرد إذا ما انتقص منها شيء، فكان لا بد أن نتعلم كيف نعلن عن حاجتنا بشكل صحيح، ومطلبها بأدب، وكذلك كيف نتعامل مع حاجيات شريك الحياة، فلا نظلمه أو ننقصه من حقه شيئا .وها هو العلم صار قادرا على إعطائنا المعلومات التي تزيد من كفائتنا، وقوتنا، وتعيدنا إلى طبيعتنا التي نسيناها .


عدت بنظري إلى صديقي طارق وأنا أقول : إن من يحب ينبغي أن يتفهم من يحبه، ويتقبله كما هو، إننا لسنا بالكمال الذي نظنه، ولا يجب أن نفترض كذلك المثالية في الطرف الآخر، عندما نتحاور مؤمنين بقوة اختلافنا، نرسل رسالة إلى الطرف الآخر مفادها أننا نحبه ونحترمه، بينما ضجرنا من أي نقاش وخلاف، ومحاولة إنهائه قبل أن يبدأ هو في الحقيقة إشارة إلى تعصبنا وتعنتنا الفكري .


فلا تحزن يا صديقي عندما تصطدم باختلاف فكري أو نفسي ..


وحاول أن تفتح عقلك أكثر .. فأكثر .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق