الأحد، 28 نوفمبر 2010

فرشاة من نور -27-12-08, 01:47 AM




الناس…
تجدر معرفتهم في أوقات معينة من الليل, عندما يشتد ظلامه و تبدأ وحوشه بالتسلل, عندما يكونون وحيدين أمام نفس ضاحكة ضحكتها الصفراء و أمام الهموم الحقيقية التي لا تتجلي إلا بهذا ا لوقت.
عندها نتنفس بعمق, نأخذ زفيرا أخيرا و نقول:لقد تأخر ! لقد تأخر الوقت !
حينها كما في قاعة سينما خالية إلا من كرسي وحيد بالمنتصف يحتله متفرج صامت , أو هُو أُجبِر على الصمت , تبدأ دورة الذكريات, يبتدأ الشريط يستعرض كل مشاهد الماضي, متفننا باستعراضها واحدة تلو الأخرى, مشهدا مشهدا...
يا لثرثرة الذاكرة ! إنها تأتي متخفية بقناع مخملي لتخدعك بأنها الحقيقة.
و يبدأ كلامها, تنطلق ثرثرتها فتُبكيك, تُبكيك بحق. تحدثك عن القلق, عن الأغاني التي لم تكتمل, عن كلمات كان يجب أن تُقال, عن فصول ربيع جميلة لم نلمحها إلا خلسة.
تحكي عن بحر واسع, بعيد, طحالبه ذهبية طويلة كشعر حورية من قصص الطفولة البعيدة, طحالبه تطفو على زبد الأيام الغابرة.
و نتذكر: حقل عباد شمس في بدايات الصباح, تغلفه قطرات ندى خجولة. و نتذكر ضحكاتنا و نبكي:أصبح بين ذلك ا ليوم و غدي ألف سنة ضوئية...
تتراجع الذاكرة أكثر, إلى ليلة من ألف ليلة و ليلة, كان سوادها مخمليا, كانت سماؤها منقطة بنجوم ماسية.
تتراجع الذاكرة أكثر, الى دار تملؤها ضحكات الأطفال, عصافير أشجارها تصرف فعل’أحبك’ إلى جميع الأزمنة المعروفة و إلى أزمنة أخرى مجهولة ستأتي… تعود الذاكرة إلى صداقة خُلِقت قبل الحب, إلى صداقة خُلِقت قبل الحياة.
و يعود وجهكِ أنتِ, المرسوم على لوحة الكون بفرشاة من نور, المنحوت ببطن كل السحب العابرة الحاملة بشارة الشتاء.
و أراكِ… بركن قصي من الدار, كوشاح قطني أليف...
قولي لي: هلا مددتِ يدكِ لتزيل الطحالب من على شاطئ أحلامي؟ هلا مددتِ يدكِ إلى حديقتي لتخلصي ورودي من أشواكها؟
أنتِ يا هِبَة أيامي بعد أن يئستُ من عطاياها… قولي لي يا صديقتي يا من وحده صوتكِ يطغى على هذه الثرثرة اللعينة, يا من كلماتكِ تتشربها حنايا القلب و تصل إلى مركز طاقته و تشحنه بألف شمعة.
أتيتِ من بلد الأساطير كإلياذة احتفظت بسحرها من براثن المؤرخين. و أنا, كتلك العليسة التي تركت مسكنا لتؤسس موطنا, اخترت على أرضك البقاء و من ثوبكِ العتيق صنعتُ قرطاج جديدة.
أنتِ, يا من كُتب تعارفنا قبل خلقنا, و حُكِمَ على كلينا باللقاء, لا تحرقي أرضي الجديدة.


تعود بي الذاكرة إلى نفس الدار, أرى نفس الوجوه لكن شيئا ذبُلَ هناك: لم أعد بعمر البراءة, أظنني افتقدتها هذه المرة. كأن الشتاء جاء مبكرا و كأنها تثلج بداخلي.
أعود إلى حدائقي التي زرعتها يوما ما. الحشائش كالحزن, نبتت بكل ركن. وهاأنا غير قادرة حتى أن أطأها.
قولي لي: أ هو الموت الذي سيطحن كل شيء؟ أم ستكون يدكِ التي ستمزق أوراق هذا الكتاب الحزين, ذاكرتي؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق